كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وانطلق الملأ منهم} أي: أشراف قريش من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله {أن امشوا} أي: يقول بعضهم لبعض امشوا أي: اذهبوا {واصبروا} أي: اثبتوا {على آلهتكم} أي: على عبادتها، قال الزمخشري: ويجوز أنهم قالوا: امشوا أي: أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها، ومنه الماشية للتفاؤل.
فائدة:
الجميع يكسرون النون في الوصل من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا.
ولما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة بمكانه قال المشركون {إن هذا} أي: الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {لشيء يراد} أي: بنا فلا مرد له أو أن الصبر على عبادة الآلهة لشيء يراد وهو أهل للإرادة فهو أهل أن لا ننفك عنه، وقيل: هذا المذكور من التوحيد لشيء يراد منا وقيل: إن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم.
{ما سمعنا بهذا} أي: الذي يقوله محمد من التوحيد {في الملة الآخرة} قال ابن عباس: يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون: ثالث ثلاثة، وقال مجاهد: يعنون ملة قريش دينهم الذي هم عليه {إن} أي: ما {هذا} أي: الذي يقوله: {إلا اختلاق} افتعال وكذب.
{أأنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {الذكر} أي: القرآن {من بيننا} وليس بأكبرنا ولا أشرفنا وهذا استفهام على سبيل الإنكار لاختصاصه عليه الصلاة والسلام بالوحي وهو مثلهم، وفي ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالواو، وأدخل بينهما ألفًا قالون وأبو عمرو بخلاف عن ورش وابن كثير بغير إدخال، وعن هشام فيها ثلاثة أوجه: تحقيق الهمزتين، وإدخال ألف بينهما، وتحقيقهما من غير إدخال ألف بينهما، قال الله تبارك وتعالى: {بل هم في شك} أي: تردد محيط بهم مبتدأ لهم {من ذكري} أي: وحيي وما أنزلت لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل الذي لو نظروا فيه لزال هذا الشك عنهم {بل} أي: ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك {لما يذوقوا عذاب} أي: الذي أعددته للمكذبين ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ولصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ولا ينفعهم التصديق حينئذ.
{أم} أي: بل {عندهم خزائن} أي: مفاتيح {رحمة} أي: نعمة {ربك} وهي النبوة يعطونها من شاؤوا، ونظيره قوله تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك} أي: نبوة ربك {العزيز} أي: الغالب الذي لا يغلبه أحد {الوهاب} الذي له أن يهب كل ما يشاء من النبوة أو غيرها لمن يشاء من خلقه.
ولما كانت خزائن الله تعالى غير متناهية كما قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} ومن جملته السموات والأرض وما بينهما وهم عاجزون عن هذا القسم قال الله تعالى: {أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما} أي: ليس لهم ذلك فلأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله تعالى أولى، وقوله تعالى: {فليرتقوا في الأسباب} جواب شرط محذوف أي: إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم فينزلوا الوحي إلى من يريدونه وهذا غاية التهكم بهم والتعجيز أو التوبيخ، قال مجاهد: أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سبب واستدل حكماء الإسلام بقوله تعالى: {فليرتقوا في الأسباب} على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله تعالى فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات: أسبابًا وهذا يدل على ذلك وقوله تعالى: {جُندٌ ما هنالك مهزوم من الأحزاب} خبر مبتدأ مضمر أي: هم قريش جند من الكفار المتحزبين على الرسل عليهم السلام، مهزوم: مكسور عما قريب، فمن أين لهم تدبير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية، فلا تكترث بما تقوله قريش، قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فقال تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم، وقيل: يوم الخندق، قال الرازي: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون مهزومين في مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح.
تنبيه:
في ما وجهان، أحدهما: أنها مزيدة، والثاني: أنها لجند على سبيل التعظيم للمهزومين وللتحقير، فإن ما الصفة تستعمل لهذين المعنيين، وقد تقدم الكلام عليها في أوائل البقرة، وهنالك صفة لجند وكذلك مهزوم ومن الأحزاب ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معزيًا له عليه السلام: {كذبت} أي: مثل تكذيبهم {قبلهم قوم نوحٍ} أنث قوم باعتبار المعنى واستمروا على عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام {وعادٌ} سماهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح العقيم ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض وهم لا يذعنون لما دعاهم إليه هود عليه السلام {وفرعونُ ذو الأوتاد} كانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيًا بين أربعة أوتاد يشد كل يد وكل رجل منه إلى سارية وتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت، وقال مجاهد: كان يمد الرجل مستلقيًا بين أربعة أوتاد على الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد، قال السدي: كان يشد الرجل بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات، وقال ابن عباس: ذو البناء المحكم، وقيل: ذو الملك الشديد الثابت، وقال العتبي: تقول العرب: هم في عز ثابت الأوتاد يريدون أنه دائم شديد قال الأسود بن يعقوب:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في ظل ملك ثابت الأوتاد

وقال الضحاك: ذو القوة والبطش، وقال عطية: ذو الجموع والجنود الكثيرة لأنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء، والأوتاد جمع وتد وفيه لغات وتد بفتح الواو وكسر التاء وهو الفصحى، ووتد بفتحتين، وودّ بإدغام التاء في الدال.
{وثمود} واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها ولم يكن في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم {وقوم لوط} أي: الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وفي شقاقهم حتى ضربوا بالعشاء وطمس الأعين ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم {وأصحاب الأيكة} أي: الغيضة، وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام {أولئك الأحزاب} أي: المتحزبون على الرسل عليهم السلام الذين خص الجند المهزوم منهم، وقيل: المعنى أولئك الأحزاب مبالغة في وصفهم بالقوة كما يقال: فلان هو الرجل أي: أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل عليهم العذاب، وفي الآية زجر وتخويف للسامعين.
{إن} أي: ما {كل} أي: من الأحزاب {إلا كذب الرسل} أي: لأنهم إذا كذبوا واحدًا منهم فقد كذبوا جميعهم لأن دعوتهم واحدة وهي دعوة التوحيد {فحق عقاب} أي: فوجب عليهم ونزل بهم عذابي.
ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال تعالى: {وما ينظر} وحقرهم بقوله تعالى: {هؤلاء} أي: وما ينتظر كفار مكة {إلا صيحة واحدة} وهي نفخة الصور الأولى، كقوله تعالى: {ما ينظرون إلا صيحةً واحدةً تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية} الآية والمعنى: أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معدٌّ لهم يوم القيامة، فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يقطع كل ساعة بحضوره، قيل: المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة كما يقال: صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة ** خروا لشدتها على الأذقان

ونظيره قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} الآية. وقرأ حمزة والكسائي: {ما لها} أي: الصيحة {من فواق} بضم الفاء، والباقون بفتحها، وهما لغتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع والمعنى: ما لها من توقف قدر فواق ناقة، وفي الحديث: «العبادة قدر فواق ناقة» وهذا في المعنى كقوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} وقال ابن عباس: ما لها من رجوع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال: أفاقت الناقة تفيق إفاقة، رجعت واجتمعت الفيقة في ضرعها، والفيقة اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم يترك ساعة حتى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق أي: العذاب لا يمهلهم بذلك القدر.
{وقالوا} أي: كفار مكة استهزاءً لما نزل قوله تعالى في الحاقة: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} {وأما من أوتي كتابه بشماله} {ربنا} أي: يا أيها المحسن إلينا {عجل لنا قطنا} أي: كتاب أعمالنا في الدنيا {قبل يوم الحساب} وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول، وقال مجاهد والسدي: يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب، قال عطاء: قاله النضر ابن الحارث وهو قوله: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} وقال مجاهد: قطنا حسابنا، يقال لكتاب الحساب: قط، وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز ويجمع على قطوط وقططة، كقرد وقرود وقردة، وفي القلة على أقطة وأقطاط، كقدح وأقدحة وأقداح، إلا أن أفعلة في فعل شاذ.
ولما أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة أولها: من أمر النبوات وإثباتها كما قال تعالى: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} وثانيها: تعجبهم من الإلهيات فقالوا {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} وثالثها: تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} قالوا ذلك استهزاء أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر فقال سبحانه:
وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال: {على ما يقولون} أي: على ما يقول الكافرون من ذلك، ثم إنه تعالى لما أمر نبيه بالصبر ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية له فكأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولًا بهم خاص، وحزن خاص، فيعلم حينئذ أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله تعالى لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
وبدأ من ذلك بقصة داود عليه السلام فقال تعالى: {واذكر عبدنا} أي: الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا وأبدل منه أو بينه بقوله تعالى: {داود ذا الأيد} قال ابن عباس: أي: القوة في العبادة، روي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه» وقيل: ذا القوة في الملك ووصفه تعالى بكونه عبدًا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا} وأيضًا وصف الأنبياء عليهم السلام بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة {إنه أواب} أي: رجاع إلى مرضاة الله تعالى، والأواب فعال من آب يؤب إذا رجع قال الله تعالى: {إن إلينا إيابهم} وهذا بناء مغالبة كما يقال: قتال وضراب وهو أبلغ من قاتل وضراب وقال ابن عباس: مطيع، وقال سعيد بن جبير: مسبح بلغة الحبشة، ويؤيد هذا قوله تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {سخرنا الجبال} أي: التي هي أقسى من قلوب قومك وأنها أعظم الأراضي صلابة وقوةً وعلوًا ورفعةً بأن جعلناها منقادة ذلولًا كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله تعالى: {معه} أي: مصاحبة له {يسبحن} أي: بتسبيحه وفي كيفية تسبيحها وجوه أحدها: أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلًا وقدرة ونطقًا وحينئذ يصير الجبل مسبحًا لله تعالى، ثانيها: قال القفال: إن داود عليه السلام أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحًا. روى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحدًا من خلقه مثل صوت داود عليه السلام حتى أنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، ثالثها: أن الله تعالى سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود عليه السلام فجعل ذلك السير تسبيحًا لأنه يدل على كمال قدرته تعالى واتقان حكمته {بالعشي والإشراق} قال الكلبي: غدوةً وعشيًا، والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها، قال الزجاج: يقال: شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، وقيل: هما بمعنى واحد والأول أكثر استعمالًا، تقول العرب: شرقت الشمس ولما تشرق، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى قال ابن عباس: كنت أمر بهذه الآية ولم أدر ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى وقال: «يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق»، وروى طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا: لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. وقوله تعالى: {والطير محشورةً} أي: مجموعة إليه تسبح معه، عطف مفعول على مفعول، وهما الجبال والطير، أو حال على حال، وهما يسبحن، ومحشورة كقولك: ضربت زيدًا مكتوفًا وعمرًا مطلقًا وأتى بالحال اسمًا لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئًا فشيئًا لأن حشرها دفعة واحدة أدل على القدرة والحاشر هو الله تعالى؟ فإن قيل: كيف يصدر تسبيح الله تعالى من الطير مع أنه لا عقل لها؟
أجيب: بأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولًا ولا حتى تعرف الله تعالى فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداود عليه السلام {كلٌ} أي: من الجبال والطير {له} أي: لداود أي: لأجل تسبيحه {أواب} أي: رجاع إلى طاعته بالتسبيح وقيل: كل مسبح فوضع أواب موضع مسبح وقيل: الضمير في له للباري تبارك وتعالى والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.
{وشددنا} أي: قوينا بما لنا من العظمة {ملكه} بالحرس والجنود، قال ابن عباس: كان أشد ملوك الأرض سلطانًا كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، وعن ابن عباس: أن رجلًا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود فقال: إن هذا قد غصبني بقرًا فسأله داود فجحد فقال للآخر: البينة فلم تكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثانية فلم يفعل فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل داود إليه فقال له: إن الله تعالى أوحى إلي أن أقتلك فقال: تقتلني بغير بينة فقال: نعم والله لأنفذن أمر الله تعالى فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت ابن هذا فقتلته فبذلك أخذت، فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى: {وشددنا ملكه} {وآتيناه} أي: بعظمتنا {الحكمة} أي: النبوة والإصابة في الأمور.